كان موته كحياته دراما هائلة، روايات متضاربة، دم كثير، وأساطير بلا نهاية.
ابن الأغنياء الذي كانت ترشحه ظروفه لسيرة حياة أخرى، ولد وفي فمه ملعقة ذهب، ولد مليونيرا وابنا لمليادير، وكانت عائلته على علاقة قربى مع العائلة السعودية المالكة، ثم انتهى إلى الضد تماما.
أنفق ماله كله لله، وبالطريقة التي اهتدى إليها تفكيره، واختار حياة التقشف، وصار رفيقا للجبال والكهوف، وصديقا لغربة رحلت به إلى أقاصي الأرض، تطارده الدنيا كلها وتسقط عنه جنسيته السعودية، ويصبح مواطنا عالميا، هويته هي اسمه، وسيرته تمضي كالأساطير، مليارات من البشر يحبونه، ومليارات أخرى تكرهه.
اختلف مع تنظيم 'القاعدة' كما شئت، وكاتب السطور يختلف بشدة، ولا يرى من أثر إيجابي لمئات فوق مئات من عمليات العنف العشوائي، وبما لا يخدم بالتأكيد قضية الإسلام ولا قضية المسلمين، لكن الخلاف شيء، والاعتراف بالحقيقة الإنسانية الفريدة لزعيم التنظيم أسامة بن لادن شيء آخر، فقد هجر الرجل متاع الدنيا وما حملت، وهاجر إلى اختياره، وصار مزيجا من البساطة والتصميم في آن، وفي آلاف الشرائط والصور التي ظهر فيها، يبدو الرجل بلباسه الصحراوي البسيط، جلباب أبيض، وسترة عسكرية مرقطة، وجراب من طلقات الرصاص، وبندقية على كتفه أحيانا. في صوته هدوء سابغ، وملامحه تنطق بالرضا، وعيناه النافذتان كصقر توحي بإيمان جارف، سبيكة إنسانية لفرد ممتاز حقا، ومن هؤلاء الذين يصنعون التاريخ بامتياز، قد تقول انه هدم ولم يصنع، وقد يكون لرأيك وجاهة بمنطق ما، لكن بن لادن يظل ملهما لأجيال وراء أجيال، هد اليأس حيلها في بؤس عالم إسلامي واسع، يحكمه رجال بلا ذمة وبلا دين، ينهبون ويقتلون ويخونون، ويتركون بلادهم لقمة سائغة لطمع الغرب ووحشيته، ويتعاملون مع أمريكا على أنها الرب المعبود، ويشدون رحال الحج عمليا إلى البيت الأبيض، وليس إلى الحجر الأسود في كعبة مكة.
بن لادن ابن المفارقة الصارخة التي جعلتنا مسلمين بلا إسلام حقيقي، وجعلت أغلب أهلنا أذلة، وجعلت بلادنا مزارع مفضلة لمطامع الأقوياء، وجعلتنا ضعفاء رغم قوة الإسلام، ونبل رسالته الهادية، وعظيم تأثيره في النفس الإنسانية، وفي عمارة الكون تعبدا لله الخالق سبحانه، ومن قلب المفارقة بين حالنا وديننا، ولدت أسطورة بن لادن، ترك الرجل نعيمه الشخصي، وذهب لملاقاة الخطر، ليس كدرويش، ولكن كمقاتل، ترك صفقات التجارة، وذهب إلى صفقات السلاح، استفزه الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، ولم يجد حرجا في التعامل مع الأمريكيين، ولا مع أجهزة مخابراتهم، ولا في تعلم دروس الجهاد الأولى من الشيخ عبد الله عزام وغيره، وخرج كالشعرة من العجينة، وألف كتائبه الخاصة جدا، وحول معسكرات التدريب إلى 'القاعدة' التي عرف بها اسم تنظيمه، في ما بعد، لم تكن قوة الانجذاب إليه في سعة ماله فقط، ولا في فوائض إنفاقه في سبيل ما يؤمن به، وعن طيب خاطر، يزهد الدنيا وما فيــــها، لم يكن يهـــرب من الدنيا، بل يتطلع إلى دنيا إسلامية خالصة بحسب فهمه، دنيا جعــلته يخاصم الأمريكيين الذين صادقهم في حرب تحرير أفغانستان، ويعي العصر وعلومه، ويدرب أجيالا من العرب الأفغان على حرب كونية، غير مسبوقة، جعلته زعيما لمعسكر 'الإرهاب' بلغة المجتمع الدولي المنافق، وجعلته خصما لمعسكر الشر الذي يقوده سيد البيت الأبيض.
كانت جغرافيا الدنيا كلها دارا لحربه، ووصلت حربه إلى الذروة بهجمات ايلول/سبتمبر 2001، التي مثلت أول اختراق لحصانة القلعة الأمريكية منذ هجمات 'بيرل هاربور' اليابانية في نهايات الحرب العالمية الثانية، ورغم وجود تفاسير أخرى للهجوم العاصف، إلا أن كاتب السطور يعتقد يقينا بما قاله بن لادن، الذي اعترف بمسؤوليته الشخصية عن تدبير وتنفيذ الهجوم، فقد ربى الرجل أجيالا على صنعة اختراق المستحيل.
ولم يكن للرجل أن يلقى نهاية أفضل مما جرت عليه، فقد عاش كأسطورة ومات كأسطورة، وفشلت أمريكا في أن تعرف مكانه لأكثر من عشر سنوات، وهو الذي كان يتحرك تحت ظل سلاحها، ويتنقل بثقة من كهف إلى آخر، ومن قصر إلى آخر، لا يقيم وزنا لحدود دول، وينتظر الشهادة في أي وقت، وقد لقيها بخيانة واحد من أعوانه، وفي عملية كوماندوز أمريكية لم تتكشف كل أسرارها، وربما لا يكون من معنى لتساؤلات أثيرت، وربما ستظل تثار لوقت طويل مقبل، ومن نوع التقييم الأخلاقي والقانوني لعملية اغتياله، فحين تكون أمريكا حاضرة في موضوع، فلا معنى لسؤال عن قانون أو أخلاق، فكل هذه المعاني مجرد 'مناديل كلينيكس' عند الأمريكيين، وللأمريكيين أخلاق القتلة المحترفين، فقد قتل الأمريكيون ملايين من الناس بدم بارد، وأرعبهم أن يقتل منهم الآلاف في هجمات سبتمبر، وهنا جوهر المفارقة التي صنعت أسطورة بن لادن، فقد رأى بن لادن ـ كما علمه دينه ـ أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن العين بالعين والسن بالسن، وقد بدأت أمريكا القتل، وهي الأظلم حتى لو ركبت أعلى ما في خيلها وحاملات طائراتها.
وحين قتلت أمريكا بن لادن، فقد كانت تخافه، أطلقوا عليه النار وهو الأعزل من سلاحه، أطلقوا عليه الرصاصة الأخيرة فوهبوه جائزة الشهادة، سكت نبض الرجل، وتوقف قلبه، لكن لم يتوقف خوف الأمريكيين منه، وبدا فرحهم الوحشي بمقتله هلعا حقيقيا من سيرته، وأقدموا على جريمة إضافية تليق بوحشية الأمريكيين، وألقوا بجثة الرجل في البحر، وحتى لا يكون قبره على البر مزارا لمحبيه، فهم يخافونه حيا وميتا.
ومن المؤكد أن تنظيم 'القاعدة' لن يموت مع بن لادن، ربما لأن التنظيم لم يكن تنظيما من الأصل، بل نزعة سرت في نفوس شباب الظاهرة الإسلامية الراديكالية، واجتمعت عليها تنظيمات صغيرة وكبيرة تنشأ هنا أو هناك، وتقع في أسر هوى الشيخ، وتقتدى بسيرته الملهمة، وإن بدا في سلوكها العنيف نشوزا ظاهرا عن خط بن لادن، فقد كان الرجل عدوا ظاهرا لطغيان أمريكا ومصالحها الكونية، ورد على الإرهاب الأمريكي بإرهاب مقابل، فيما لم تكن حماسته ظاهرة ـ بذات القدر ـ لعمليات إرهاب عشوائي، يسقط فيها عرب ومسلمون، ويتحول فيها القتل إلى حرفة بذاتها، وتنعدم فيها فرص الرؤية الصحيحة، ومن نوع عمليات تدور في مشرق عالمنا العربي ومغاربه، لا تغير نظما، ولا تهدم باطلا، بل تنشر الخوف عند عموم الناس، ولا تنقل الخوف إلى محله وعنوانه 'الأمريكي' كما كان يريد بن لادن، والذي يظلمه أنصاره ربما بأكثر مما ظلمه الأعداء.
' كاتب مصري