mercredi 23 février 2011

الملحمة الليبية والموقف الأميركي

تتعرض وصفة التغيير التي اكتشفت في تونس وأحكمت في مصر إلى اختبارات صعبة في ليبيا واليمن والبحرين، حيث دخلت على الخط عوامل النفط وإيران والحرب على الإرهاب، كما أن
النظام في ليبيا فريد من نوعه ليس فقط من حيث الشراسة ولا من حيث عمره الذي تجاوز الأربعين سنة، ولكن من حيث غياب أي مؤسسات أو آليات أو مجتمع مدني يسمح بترتيبات شبيهة بما حدث في تونس ومصر.
فإلى أين تسير ثورة ليبيا؟ وماذا سيكون ثمن التغيير؟ وكيف ستكون ليبيا ما بعد القذافي؟ ثم كيف ستكون علاقة الشعب الليبي خصوصا والشعوب العربية والإسلامية عموما بالغرب وبالولايات المتحدة الأميركية في ظل الصمت المحير والمواقف الخجولة؟
"
يسر النظام الليبي المهمة بقمعه العنيف للمظاهرات السلمية وساعد على قطع خط الرجعة، فتدفق مخزون الشجاعة والإباء والنخوة والشهامة الليبي لاستيفاء استحقاق التغيير الذي ظل ثمنه يرتفع
"
قبل تناول هذه الأسئلة لا بد من الترحم على شهداء ليبيا ولا بد من تحية إجلال وإكبار للشعب الليبي الذي أقدم على التغيير وتحدي النظام وهو يعلم مدى كبره ووحشيته وهمجيته واستعداده لإبادة الشعب.
ويسر لهم النظام المهمة بقمعه العنيف للمظاهرات السلمية وساعد على قطع خط الرجعة، فتدفق مخزون الشجاعة والإباء والنخوة والشهامة الليبي لاستيفاء استحقاق التغيير الذي ظل ثمنه يرتفع نتيجة غياب الضغط الدولي لكبح جماح النظام السفاح الذي لم يتورع عن قصف عشرات الآلالف من المواطنين بالطائرات الحربية وبالمدفعية.
وكما ظن النظام المصري من قبل أن مصر ليست تونس ظن القذافي أن ليبيا تختلف عن تونس ومصر، وربما ظن أنه يمكن شراء صمت الدول بالمال والنفط، ويمكن إخضاع الشعب بالمجازر. لم يفهم الدرس بعد على بساطته، ولم يعتبر مما حدث على حدوده الغربية والشرقية منذ أيام وأسابيع قليلة.
ارتكب النظام الليبي أبشع جريمة يمكن أن يرتكبها نظام حكم، فالمهمة الأولى لأي نظام هي الدفاع عن الوطن والمواطنين من أي خطر خارجي، ولكن النظام الليبي لم يكتف باستعمال الأسلحة الثقيلة في مواجهة المتظاهرين العزل بل لم يتورع عن استقدام مرتزقة أجانب لارتكاب محرقة في حق الشعب.
قطع خط الرجعة وقرر النظام أن يتشبث بالحكم مهما كان الثمن وقرر الشعب أن يزيله مهما كان الثمن، وكما حصل في تونس ومصر جاء الخطاب الأول محملا بالتهديد والوعيد الذي فاق بكثير في حدته الخطاب الأول في تونس وفي مصر. وكما كان متوقعا كانت طرابلس العاصمة أرض المعركة الفاصلة، فتقاطرت الجماهير الليبية إلى الساحة الخضراء، وقطع النظام الاتصالات والكهرباء ونفذ تهديده بشن حرب شاملة جبانة برية وجوية على المتظاهرين.
ولكن النظام الليبي لم يدرك أن الشعب أقوى وأبقى ، وأن القدر دوما يستجيب لكل شعب يريد الحياة ويريد إسقاط النظام، وصدق أبو القاسم الشابي إذ قال:
إذا الشعب يوما أراد الحياة** فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بـد للظلـم أن ينجلي** ولا بد للقيد أن ينكـسر
وكما كانت نبرة التهديد أعلى في ليبيا منها في تونس ومصر كان التنفيذ أبشع، فسياسة الأرض المحروقة في ليبيا لم تنفذ من خلال انفلات أمني وعصابات النهب والسلب والقتل فقط، وبدل الجمال والخيول استعمل النظام الليبي أحدث الطائرات الحربية والمدفعية.
"
كما مثلت ثورة ليبيا اختبارا لوصفة التغيير التي ابتدعها العرب في تونس، مثلت أيضا اختبارا لضمير العالم وللإستراتيجية الأميركية والأوروبية تجاه موجة التغيير التي تكتسح العالم العربي
"
وكما مثلت ثورة ليبيا اختبارا لوصفة التغيير التي ابتدعها العرب في تونس، مثلت أيضا اختبارا لضمير العالم وللإستراتيجية الأميركية والأوروبية تجاه موجة التغيير التي تكتسح العالم العربي، وكانت النتيجة نجاح الاختبار الأول وفشل الاختبار الثاني، فوصفة التغيير أثبتت ليس فقط نجاعتها ولكن أيضا قابليتها للتكييف لتتناسب مع الأوضاع المختلفة.
أما فيما يتعلق بالموقف الأوروبي والأميركي فقد كان الصمت أولا ثم مع تصدع النظام وفقدانه السيطرة على المزيد من مساحات البلاد بدأت البيانات تصدر على استحياء تعبر عن اهتمام ثم عن قلق ثم استنكار لما يحدث في ليبيا من قمع للمتظاهرين، ثم مناشدات لضبط النفس ولوقف العنف، وبينما كان الشعب الليبي يقصف برا وجوا كانت بعض الحكومات الغربية تدرس خياراتها للتعامل مع ليبيا.
استطاعت أميركا أن تتعامل بصورة معقولة مع ثورتي تونس ومصر، رغم عنصر المفاجأة، لم تكن هناك إستراتيجية واضحة ولا تحول عن الإستراتيجية التي تركز على الاستقرار بأي ثمن التي دعمها ما بدا من الشعوب من رضى أو صبر على أنظمة الفساد والاستبداد، وحاجة أميركا لتلك الأنظمة في الحرب على الإرهاب.
دعمت أميركا التغيير في تونس ومصر ورحبت به، وساهمت في الموقف المشرف للجيشين التونسي والمصري ومن ثم التعجيل في رحيل الرئيسين، مما جنب تونس ومصر المذبحة التي شهدتها ليبيا.
استقرت أميركا على إستراتيجية تخلط بين التغيير والاستقرار وتهدف إلى تطهير النظام وليس إزالته وإحداث إصلاحات ديمقراطية دون تحديد مداها ولا سرعتها. وفي الحالة المصرية كان هناك ارتباك ومراوحة بين الاستقرار والتغيير. ومع ذلك بدت هذه الخطة الحذرة ناجحة نسبيا في مواكبة الأحداث وتجنب استعداء الشعبين التونسي والمصري والشعوب العربية والإسلامية عموما.
ولكن هذه الخطة الهشة لم تصمد في ليبيا حيث قطع خط الرجعة بسرعة وسارت الأمور بسرعة فائقة نحو مواجهة حاسمة صفرية لا تقبل القسمة ولا تحتمل لا التردد ولا التأخر في اتخاذ الموقف المطلوب، ولا تسمح بمخرج يجمع بين التغيير والاستقرار كما حدث في تونس ومصر.
ومع أن أوضاع ليبيا تحتم أن ثورتها ستتعرض لمذبحة ولن تنتهي إلا باجتثاث النظام مهما كانت الضحايا كان الموقف الأميركي متأخرا جدا وضعيفا جدا وجاء بعد صمت محير.
ولنترك مناقشة الموقف من الناحية المبدئية والأخلاقية فذلك من باب شرح الواضحات، ونركز على البعد الإستراتيجي، فالإدارة الأميركية كانت قصيرة النظر، والموقف الأميركي تجاه ثورة ليبيا كان رهانا خاسرا ولم يكن أقل فشلا من الموقف من الثورة الإيرانية التي لم تتوقع أميركا نجاحها وأخطأت في التعاطي معها، فوجدت نفسها في مواجهة شعب ونظام معاديين.
فالشعب الليبي سيخرج منتصرا ولن يغفر لأي جهة التزمت الصمت تجاه المحرقة التي تعرض إليها، خاصة إذا كانت تلك الجهة تملك أن تفعل شيئا، خاصة إذا قارن مواقف تلك الجهة من مظالم أخرى أقل بشاعة، خاصة أن النظام الليبي يمثل قمة الفساد والاستبداد والفشل.
فليبيا تكاد تكون دولة فاشلة، ليس بسبب الاقتتال الداخلي كما هو حال جل الدول الفاشلة، ولكن بسبب نظام حطم كل الأرقام القياسية في الفشل. فهو يحكم بلدا غنيا بالبترول أرضه خصبة وشعبه معتدل وكذلك طقسه، ويمتد ساحلها على مدى 2000 كيلومتر. ومع ذلك فشل في توفير الخدمات الأساسية لشعبه وجعله فريسة للفقر والتخلف والعزلة عن العالم وتخلفت ليبيا في الصحة والتعليم والبنية التحتية حتى عن الدول محدودة الموارد، فضلا عن تجويف الحياة السياسية والثقافية وإفراغ المجتمع من أي مؤسسات أو قيادات.
لقد كان واضحا أن الثورة التي تكتسح العالم العربي هي من طراز الأحداث التي غيرت وجه الأرض ومجرى التاريخ كالحرب العالمية وسقوط الاتحاد السوفياتي والأنظمة التابعة له، ولا يجوز التعامل معها بتردد ولا بسياسة الترقيع خاصة لدولة عظمى مثل أميركا.
"
أساءت أميركا قراءة الموقف في ليبيا ومن ثم أخطأت في التعامل معه، وأضرت كثيرا بمصالحها في ليبيا وفي العالمين العربي والإسلامي على المدى البعيد وبما تبقى من سمعتها ومصداقيتها فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان
"
لقد أساءت أميركا قراءة الموقف في ليبيا ومن ثم أخطأت في التعامل معه، وأضرت كثيرا بمصالحها في ليبيا وفي العالمين العربي والإسلامي على المدى البعيد وبما تبقى من سمعتها ومصداقيتها خاصة فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان. ومثلما أن الوقت قد تأخر على أي تنازلات أو إصلاحات يمكن أن يقدم عليها النظام الليبي فإن الوقت تأخر جدا على أي تصريح وتنديد يمكن أن يصدر عن أميركا مهما كانت حدة لهجته، ولا يمكن أن ينقذ سمعة أميركا ومصداقيتها ومصالحها إلا أفعال تنقذ الشعب الليبي من الحصار والقصف والإبادة وتكبح النظام الليبي الأهوج وتيسر رحيله.
ليبيا تعيش لحظة فارقة، وتدفع ثمنا باهظا لقاء الحرية والكرامة، وربما يكون التحول فيها بعد القذافي أعقد بكثير من المسار الديمقراطي المتعثر في تونس ومصر، ولكن قد لا يكون بد من هذا السيناريو باعتبار غياب المجتمع المدني وباعتبار أن النظام الليبي غير قابل للإصلاح ولا حتى للتطهير.
ولن تعود عقارب الساعة إلى الوراء في ليبيا ، ولا يمكن أن تكون أوضاع ليبيا أسوأ مما كانت عليه في عهد القذافي، والشعب الليبي لن يتوقف حتى يستعيد حريته كاملة غير منقوصة بعد أن استنشق رائحتها ودفع القسط الأكبر من ثمنها ورأى النور في آخر النفق المظلم الذي عاش فيه أكثر من أربعة عقود ويكاد يغادره في بضعة أيام.
المصدر:الجزيرة

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire