عجبا.. كيف يتحول رجال الدين من وسائل ايضاح للبشرية عن معنى التقوى والزهد في دين الله والدعوة الى الحق ورفع المظالم عن الناس ونصرة المظلومين، وترغيب الناس في الجهاد في سبيل المطالب المشروعة والعزة والحياة الحرة الكريمة، الى وسائل اعلام للحكام، يمررون بفتاواهم أجندات مشبوهة، ويباركون بأقوالهم ظلم السلطات الدنيوية، ويمسحون بعمائمهم كرسي السلطة، ويبتلعون السنتهم في حضرة جور القائد، فيتحولون الى مرتزقة تستخدمهم السلطات كلما دعت الحاجة الى خدماتهم؟
عجبا والف عجب كيف يرتضي من يلبسون العمائم السوداء والبيضاء والخضراء، أن يسقطوا هيبتها ورمزيتها أمام هبات الحاكم، فتصبح قيمتها دولارا أو دينارا او تومانا أو ريالا أو اقل من ذلك بكثير، بينما يرفضون أن تتعفر بدماء الشهادة، وهم الذين يدعون بأن رمزيتها تعود الى آل بيت رسول الله؟ بينما أحفاد الرسول يصرخون في العراق، أما من ناصر ينصرنا من الاحتلال وسلطة الاحتلال؟ أما من مغيث يغثنا بلقمة خبز لاطفالنا الجياع؟ أما من ساتر يستر أعراضنا من فاحشة الاغتصاب؟
وبدل أن يرفع رجال الدين سيوفهم لنصرة الصارخين المستغيثين، ويتحزموا بعمائمهم لهزيمة الباطل فانهم ولوا الادبار ناحية مائدة اللئام في المنطقة الخضراء، وتشرفوا بأن يكونوا بوقا لهم فيصدر كاظم الحائري فتواه بتحريم المشاركة في تظاهرات يوم الغضب العراقي، ويصرح محمد مهدي الاصفي (بأن المشاركة في التظاهرة تضعف النظام ولا تصلحه) لانه يعتقد أن النظام السياسي في العراق اليوم هو محق في كل جرائمه، وأن الخروج أو الاعتراض عليه انما هو خروج على الحق وأضعاف له وانحياز نحو الباطل، بينما يعتقد محمد اليعقوبي (أن تظاهرات الجمعة مثيرة للشك والتوجس لعدم معرفة الجهات التي تقف وراءها)، فيصادر حق الجياع والمعذبين والمعدمين وذوي سجناء السجون السرية والعلنية في الشكوى والتظلم والاعتراض والصراخ، لانه يعتقد أن اي فعل من هذا القبيل انما هو فعل لا يخلو من الشك والريبة، وأن أي خروج للتعبير عن هذه المعاناة انما هو مرفوض، ويصب في نفس هذا الاتجاه رأي المرجع الاعلى علي السيستاني الذي نقله أحد وكلائه عندما أبدى (قلقه من خروج التظاهرات يوم الجمعة عن السيطرة وتسلل من سماهم ذوي المآرب والاجندات الخاصة اليها)، وهو الذي لم نسمع له فتوى في الغزو والاحتلال الا قبل حصوله، وعندما حصل تنازل الرجل عن فتواه في الجهاد، ولم نسمع له قولا في اغتصاب الطفلة عبير الجنابي وقتلها وحرقها مع عائلتها، ولا في مذابح حديثة والزركة والموصل والبصرة والناصرية والعمارة والكوت وكربلاء والنجف وكل مدن العراق الاخرى، ولا رأيا في اغتصاب النساء والرجال وقلع اضافرهم، واجبارهم على ممارسة الجنس الفموي مع السجانين في السجون السرية التي تم الكشف عنها؟ اذن لماذا اليوم فقط يبدي المرجع الاعلى قلقه على الشعب العراقي من ذوي المآرب كما سماهم؟ أليس من في السلطة الحاكمة اليوم وأسيادهم الامريكان والايرانيون، هم حقا ذوو مآرب مادية عرفها جيدا بعد أن فاحت فضائح سرقاتهم لمليارات الدولارات، كما أنهم أيضا أصحاب أجندات يعرفها المرجع الاعلى جيدا من خلال تكالبهم على المناصب، وتأخيرهم في تشكيل الحكومة من أجل تحقيق أهداف الاجندات الدولية والاقليمية التي يعملون لحسابها.
أما رجل الدين القادم والمجتهد المستقبلي مقتدى الصدر فقد عاد فورا من قم، فقط كي يكبح جماح تياره الذي كان يستعد للخروج بمليون شخص للتظاهر، وهم الذين لم يقتنعوا لحد الان بالمبررات (الشرعية) التي ساقها زعيمهم للصلح مع المالكي، والذي سبق ونعته بأبشع النعوت ووصــــفه بأرذل الاوصاف، فحرم عليهم الخروج مفتيا عليهم اجراء استفتاء بعد ستة أشهر على الحكومة، على اعتبار أنها حكومة جديدة لم تباشر منجزاتها بعد، متناسيا أن كل وجوه السلطة الحالية هم نفس الوجـــوه التي دمرت العراق على مدى السنوات الماضية.
ومثله أيضا فعل عبدالغفور السامرائي كي يحافظ على منصبه الوزاري، بعد أن انغمس في السلطة ونسي خطبه الرنانة ضد الاحتلال قبل الغزو، بل راح يسعى للسلطة بكلتا يديه فأعلن عن تشكيل ائتلاف سياسي له على أنغام (الجوبي) في جامع أم القرى للدخول للحكم من أوسع أبوابه.
لقد أسفر رجال الدين عن انحيازهم الاعمى وغير المبرر الى ضفاف السلطة بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، وباتوا حراس القصور الملكية والرئاسية، خاصة في هذه الظروف التي تمر بها أمتنا العربية، والتي تشهد ثورة عربية شعبية واضحة المعالم والتوجهات، تستهدف الانتقال بالواقع العربي الانساني والمجتمعي الى مستوى لائق من الحياة الحرة الكريمة، لذلك نسمع اليوم في العراق مواقفهم المـــخزية من حقوق المواطن المسلوبة، وسمعنا صوتهم قبل أسابيع قليلة وهم يجاهرون بموقف مضاد من حقوق اخـــــواننا في تونس ومصر، حينما خرج علينا مفتي الديار السعودية ليقول (ان من أسباب الفتن والغواية والظلالــــة اثارة الفتن بين الشعوب والحكام في هذه المظاهـــرات والمسيرات التي جيء بها لضرب الامة في صميمها وتشتيت شملها وتقسيمها)، وبذلك يدعو جهارا الى أن تضع الشعوب رقابها أمام الحكام راضية مرضية مهما استبد الحاكم وتغول في ظلمه، وأن أي رفض من قبل الشعوب لهذا الذل والظلم الذي وصل حد العبودية، انما هو نوع من الغواية ومن قبيل الفتنة التي يجب دحضها.
ان الغضب العراقي الذي بات جبلا في صدر كل مواطن حر شريف في أرض الرافدين، وأكبر من كل مجموع الغضب العربي، الذي عرفناه متفجرا في تونس ومصر وليبيا وغيرها من أرض العروبة، لا يمكن أن تنفسه فتاوى غير مسؤولة لرجال دين لم يقولوا كلمة حق في حضرة سلطان جائر من سلاطين العراق الطائفيين، كما لا يمكن لاي من رجال السلطة اليوم التغاضي عنه أو الاستهانة به، وقد بان ذلك بوضوح شديد في فرائص المالكي التي كانت ترتعد خوفا، وهو يوجه خطابه ليلة الجمعة الماضية عشية يوم الغضب العراقي، متوسلا (المثقفين والادباء ومنظمات المجتمع المدني والعمال والفلاحين والاطباء والمؤسسات والعلماء والمعلمين والمهندسين وكافة أطياف الشعب الى عدم المشاركة في التظاهرة)، وهو الذي ما فتئ يطبل ويزمر للديمقراطية العراقية التي يقودها، وبنود الدستور اللقيط الذي يقول انه يبيح التظاهر والاحتجاجات، لكنه نسي كل ذلك في خضم الخوف من الآتي على يد الشعب العراقي له ولزمرته الحاكمين، وراح يبرر رفض التظاهر بأن العمل يقف خلفه الصداميون والبعثيون والقاعدة، وهو الذي أعلن انتصاراته الدونكيشوتية عليهم في مناسبات كثيرة، وفاخر مرارا وتكرارا بأجهزته الامنية والاستخباراتية وقوات الجيش والشرطة التي وصل تعدادها الى المليون منتسب، لكن على الرغم من تلك التوسلات كان للمواطن العراقي يوم فخر آخر في كل مدن وقرى وحارات العراق من أقصى الشمال حتى الجنوب، حينما خرج متوحدا من كل الفوارق التي حاولوا زرعها في نسيجه الوطني، فتظاهر رغم كل الاجراءات الامنية والعسكرية، رافضا الظلم ورموز الاحتلال التي تتسيد وتتحكم بمصيره، فعاد المالكي مرة أخرى الى كذبه المعهود ليوجه خطابا في ليلة الجمعة بعد أن فشل في ايقاف التظاهرة ليقول (ما من شيء اعترض عليه المواطنون أو احتجوا لعدم رضاهم عنه يذهب سدى)، وهو يعلم جيدا أن هذه المطالب ليست وليدة الساعة أو اليوم، بل عمرها بات ثماني سنوات عجاف من عمر الاحتلال وعمليته السياسية اللاأخلاقية، بل أنه لم يلب أي مطلب منها طوال وجوده على سدة المركز الاول في السلطة التنفيذية خلال الاربع سنوات الماضية، ثم يحاول في خطابه هذا ايهام الجماهير قائلا (ان بلدنا مليء والحمد لله بالكفاءات البشرية والثروات المادية الكبيرة، ويجب أن نتكاتف جميعا ونتعاون معا من أجل أن نبني هذا الوطن وننعم بخيراته جميعا)، وكأنه يعطينا اكتشافا جديدا من بنات أفكاره لم نكن نعرفه من قبل، أو أن العراق بالامس فقط أصبح مليئا بالخيرات والكفاءات، لكنه يقينا لن يستطيع أن يقول لنا أين ذهبت كل هذه الثروات المادية، ولماذا اختص بها نفسه وعائلته وأقرباءه وأنسابه وحدهم وترك غالبية شعبنا يعاني من شظف العيش والفقر المدقع، ولماذا سمح للاخرين من شركائه بسرقة المليارات من الدولارات من دون أن يوجه الى أي منهم تهمة الاختلاس ونهب المال العام، ولماذا لم يحافظ على حياة الكفاءات البشرية العراقية التي تم تعليمها وتدريبها بأموال العراق على مدى عشرات السنين، فتركهم يقتلون على قارعة الطرقات برصاصات غادرة من المخابرات الاسرائيلية والايرانية بعلمه ومن دون علمه.
لقد انفلت الغضب من عقاله في الامة جميعها، ولن يكون العراق بمعزل عن أشقائه الاخرين الذين يسقطون العروش والكراسي الواحد تلو الاخر، ويقينا ستكون لاهلنا جولات أخرى تسقط الطائفيين واللصوص والعملاء وترد فتاوى وعاظ السلاطين ورجال الدين المتبركين بأذيال الحكام.
' باحث سياسي عراقي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire