توقع البعض، لاسباب كثيرة من بينها طول زمن الترقب والاحباط، ان تجر قطع دومينو التغيير في تونس ومصر معها العديد من انظمة الحكم العربية التي جثمت على صدور شعوبها، كالتوابيت، على مدى عقود. غير ان هذه الأنظمة التي بدا بعضها في بداية الثورات وكأنه في غرفة العناية المركزة، كما في ليبيا واليمن، تمكن في اللحظات الاخيرة من استعادة انفاسه وتسليط سيفه، من جديد، على رقاب الناس.
وكان لفعل لملمة الانظمة المهددة بالسقوط لاسلحة دفاعها الامنية والعسكرية والاعلامية، وتكاتفها فيما بينها (كما في حماية درع الجزيرة للنظام البحريني) اثر كبير على ايقاف الانتشار السريع (مؤقتا) لبذور ما أطلق عليه اسم 'الربيع العربي' الذي سبقه وضع حد لربيع مبكر، في المنطقة، وهو الربيع الايراني الذي تمكن النظام من تحويله (بحجة حماية العقيدة والأمن القومي)، في 2009، الى خريف تساقطت فيه حياة الكثيرين من المعارضين السياسيين واسكات اصوات كتاب ومثقفين، أبرزهم المخرج السينمائي المعروف جعفر بناهي، الذي حكم عليه بالسجن مدة ست سنوات ومنعه من العمل السينمائي ومغادرة البلد مدة 20 عاما.
وها نحن نشهد، في الاسابيع الأخيرة، تنامي سطوة نظام آخر على ابناء شعبه وبحجج مختلفة لا تختلف كثيرا عما سمعناه من قبل أنظمة سقطت ونسمعه من انظمة اخرى تحتمي خلف زجاج مضاد لغضب شعوبها. ان قيام النظام السوري بقمع أصوات المتظاهرين (الذين اصابوه بالذهول لاعتقاده ان التظاهرات يجب ان تنظم رسميا)، واطلاقه النار عليهم وقتل المئات بحجج، تتراوح ما بين 'حماية الأمن القومي' و'منع التدخل الخارجي' و'استهداف الوطن' و 'المشاريع التدميرية' التي تنفذها 'عناصر مندسة'، تجعله، مهما حاول المدافعون عنه، يقف في صف واحد مع بقية الانظمة القمعية في المنطقة التي سقط بعضها (تونس ومصر) ويسير بعضها الآخر في مسار التغيير (ليبيا)، بينما يستقوي بعضها الآخر بقوات الاحتلال ومرتزقته كما في العراق. وكان بأمكان النظام السوري، لو اراد وامتلك الذهنية المنفتحة على تعددية الاصوات وتمثيل مصالح ابناء الشعب والوطن، حقا، وليس مصالح الحزب الوراثي الواحد، ان يحقق الاصلاح الذي طالب به المتظاهرون، بداية، لئلا تغسل دماء ابناء الشعب شوارع وساحات البلد.
غير ان من الواضح ان النظام السوري، الذي أدمن الاعتماد على الفساد وأجهزة المخابرات، قد ارتفعت لديه حمى الفيروس الجامع ما بين حكام المنطقة، الذي يدفعهم الى اتباع سلوك أقرب ما يكون الى سلوك المصاب بالسعار تجاه شعوبهم.
وهو ما يميزهم عن حكام الغرب (أمريكا خاصة) الذين يحولون سعارهم ضد شعوب اخرى وبمسميات ' حضارية' كالحرب على الارهاب أو نشر 'الديمقراطية' مثلا، كما في غزو واحتلال العراق وافغانستان، واحتضانهم الكيان الصهيوني الارهاب والقمع ضد الشعب الفلسطيني. لقد اصبح الهاجس الأمني لدى حكام المنطقة، حبلا يلتف حول اعناق ابناء الشعب، يشده الحاكم أو يرخيه حسبما يراه مناسبا، موحيا بأنه (وحزبه او عائلته الحاكمة)، هو الوطني الوحيد أما بقية ابناء الشعب، خاصة اذا ماشقوا عصا الطاعة، فانهم مشروع خيانة أو عمالة للاجنبي. ليعكس الحاكم، في هذه الحالة، صورة خنوعه هو في مرآة الاجنبي.
وكأن الهاجس الأمني والتهديد الخارجي ليس كافيا لخنق شعوب المنطقة، فتمت اضافة فيروس الطائفية بنوعيها السني والشيعي لتشويه هوية ومطالب المتظاهرين واستخدام الغطاء الطائفي لترويع الناس، حسب الضرورة. ففي حالة ليبيا التي لم نسمع سابقا بسجلها الطائفي، وجد العقيد القذافي ان من المناسب اتهام المتظاهرين (اضافة الى تهم عديدة اخرى)، بانهم من القاعدة الارهابية السنية. وفي سورية، اتهم النظام ذو الحزب الواحد المتفاخر بعلمانيته 'جماعات التكفير السنية'، وبعد ان قتل ما يزيد على 450 متظاهرا على ايدي رجال المخابرات. واتخذت حكومة الاحتلال العراقية اتخذت موقفا مساندا للنظام السوري ضد المتظاهرين، خشية 'التدخل السلفي' الذي سيؤثر بدوره على العراق، الا انها ايدت المتظاهرين في البحرين ضد 'الأقلية السنية الحاكمة'، وقامت، في ازدواجية مواقف متميزة باستحقاق، برش المتظاهرين من ابناء شعبها بالرصاص الحي واعتقلت وعذبت المئات منهم.
وفي اليمن حذر الرئيس علي عبد الله صالح بأن 'تنظيم القاعدة يتحرك داخل معسكرات الجيش التي خرجت على الشرعية وفي أماكن الاعتصامات'. وفي البحرين، القى النظام باللوم على عاتق ايران ليتم وصف المتظاهرين المطالبين بتوسيع نطاق الحريات بانهم 'معارضة شيعية'.
واكدت منظمة العفو الدولية ان اكثر من 500 شخص، اعتقلوا خلال الاسابيع الاخيرة في البحرين مشيرة الى ان بعض المعتقلين عذبوا او تعرضوا الى سوء المعاملة بعد اعتقالهم. كما تمت احالة 404 معتقلين إلى محاكم عسكرية. وقد اصدرت المحكمة، يوم الخميس الماضي، حكما بالإعدام على أربعة اتهموا بقتل شرطيين وحكمت على ثلاثة اخرين بالسجن مدى الحياة.
ان ما يتعامى عنه الحكام هو ان غالبية المتظاهرين في البلاد العربية لم يتظاهروا للحصول على مكاسب طائفية او عرقية. اذ لم يحدث، مثلا، ان رفع المتظاهرون العراقيون المعتصمون في مختلف ساحات المدن الممتدة من السليمانية الى الموصل والرمادي وبغداد والكوت والبصرة، شعارا طائفيا واحدا على الرغم من مليارات الدولارات التي صرفتها حكومة الاحتلال الامريكية ومستخدميها المحليين، لتقسيم العراق طائفيا وعرقيا.
وكان الهدوء الذي ساد مصر اثناء ثورة شعبها حين أختفى مليون ونصف المليون من رجال الشرطة والأمن من الشوارع ، مثالا آخر، على ان الأجهزة الأمنية، وليس الشعوب، هي مصدر الفتنة بانواعها، وتستخدم الترويع من الاقتتال الديني غطاء لتسلطها.
ان ما تريده الشعوب العربية ويقابله الحكام بالقمع والقتل، بسيط بساطة أحلام أيام المواطنة والكرامة والعدالة الإجتماعية التي كانت من مسلمات مرحلة التحرر الوطني، في خمسينات وستينات القرن الماضي، مع ادراكنا بان الثورات والانتفاضات، وان تجمعها عوامل مشتركة، لا يمكن استنساخها. ان التغيير الذي ناضلت الشعوب من اجله، حينئذ، لايزال مطلبا ساري المفعول وهو الذي نسمعه في ساحات التحرير يوميا، الآن.
ومفاده ان يحكم الشعب نفسه بنفسه (لا ان يستبدل المستعمر بحاكم مستبد محلي بالنيابة)، وان يمتلك مصادر ثرواته ليضع حدا للاستغلال الاقتصادي، ان يحقق العدالة الاجتماعية وان يستعيد الشعب مدنه بشوارعها وساحاتها العامة، ليمارس حريته في التعبير عن رأيه بمسيراته وتظاهراته المنبعثة من صميم حاجاته ومطالبه هو وليست المنظمة بناء على اوامر حزب واحد او حاكم أوحد.
ان ما لا يريد الحكام الاصغاء اليه هو ان الشعوب حريصة كل الحرص على سلامة بلدانها وانها ضد التدخل الاجنبي بانواعه وانها متعبة من الاستغلال والفساد وان استمرار قمعها لن يؤدي الى حماية الوطن وسلامته بل سينخر أساسه ويجعله عرضة للسقوط والانهيار.
ان احترام حرية وكرامة وحقوق المواطن هو الضمانة الوحيدة لحماية الوطن وأمنه واستقراره. أما التسويغات التي تطرحها الأنظمة المستبدة بدعوى خصوصية وضعها، فذلك طمس لحقيقة ما يريده الشعب، وليس هناك حياد تجاه الموقف من الحقيقة.
ولم يبق امام المتشبثين بالسلطة، رغما عن ارادة شعوبهم، غير خيارين فاما التخلي والرحيل لكي يجنبوا انفسهم وشعوبهم المزيد من خسارة الأرواح أو الاصلاح السريع إحتراما للمواطنين، والإلتزام بأوليات الوحدة الوطنية وتحقيق العدالة، وها نحن نرى بدايات ذلك في فلسطين، في مصالحة قيادات فتح وحماس، وهي جزء من هذا الربيع العربي المتعثر.
' كاتبة من العراق